لاتسأل غير الله في حاجتك
لاَ تَمُدَّنَّ يَدَكَ إِلَى الأَخْذِ مِنَ الْخَلاَئِقِ إِلاَّ أَنْ تَرَى أَنَّ الْمُعْطِىَ مَوْلاَكَ ، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَخُذْ مَا وَافَقَكَ الْعِلْمُ .
قلت: مد اليد إلى الأخذ من الخلائق على قسمين: إما أن يكون من غير سؤال أو بعد السؤال، و لكل واحد منهما أحكام، أما الأخذ من غير سؤال فشرطه أمران: أحدهما: علمي، و الآخر:صوفي.
أما العلمي فلا يأخذ ممن كسبه حرام، و لا مخلط، و لا محجور عليه كالصبي و المجنون و العبد. و أما الصوفي، فلا يقبض حتى يعرف ممن يقبض علما و حالا، فإن اتسعت معرفته و تحقق فناؤه بحيث لم يبق له نظر للواسطة أصلا فربما يسلم له القبض مطلقا، لأنه يقبض من اللّه، و يدفع باللّه، و لكن الكمال هو الجمع بين الحقيقة و الشريعة، و قد كان كثير من الصوفية الحقيقيين يقبضون جوائز السلطان، ثم يدفعونها على أيديهم. و أما القبض بعد السؤال فالكلام عليه من وجهين: الأول: في جواز السؤال و منعه، و الثاني: فيما يقبضه بعد أخذه، أما حكم السؤال فأصله الجواز، قال اللّه تعالى: {وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى: 10]، فلو كان ممنوعا ما نهى اللّه عن نهره، ثم تعتريه الأقسام الخمسة: يكون واجبا، و مندوبا، و مباحا، و مكروها، و حراما. فأما الواجب : فهو ما يكون لسد الرمق، بحيث إذا ترك السؤال مات، فهذا واجب عليه، فلو تركه حتى مات مات عاصيا، فأوجبه الشارع خوفا على فوات حياة البشرية الحسية، و أوجبته الصوفية أيضا على من خاف فوات حياة الروحانية بحيث منعته الرياسة من حظ رأسه و ذبح نفسه، فقد نقل القسطلاني في «شرح البخاري»، عن ابن العربي المعافري أنه قال: هو واجب على المريد في البداية. فتحصل أنه واجب حيث يخاف فوات حياة البشرية، أو الروحانية، و إليه أشار ابن البناء بقوله:
ومن المحرم أيضا ما فيه إلحاح وإضرار بالمسئول، قال تعالى: {لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً} [البقرة: 273]. قلت: و أما ما يفعله بعض أصحابنا من صورة الإلحاح بنا فإنما قصدهم بذلك قتل نفوسهم بما يسمعون من المسئول في جانبهم، ولا يفعلونه إلا مع من يعرف عندهم بالإنكار، فيستخرجون منه الحلال اختبارا لأنفسهم، و قد يقصدون بذلك تحقيق الإخلاص و سترا للحال، فيظهرون الرغبة و هم من أزهد الناس تحقيقا للاكتفاء بعلم اللّه، و ما كان ذلك إلا في حال قوتهم و جذبهم فالسكر غالب عليهم، هذا ما حققته منهم، و قد انقطع ذلك كله اليوم، فما بقي إلا أهل الصفاء و أهل الوفاء. و سبب دخول السؤال في هذه الطائفة أن شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي اللّه تعالى عنه كان له جاه و وزارة و رياسة في فاس، فلما دخل في يد الشيخ و رأى صِدقه و جده قال له:" أرى لك خمرة لم يقدر عليها أحد قبلك، و لو لا ما رأيت فيك من الصدق و الجد ما دللتك عليها، قال: و ما هي يا سيدي؟ فقال: السوق للسؤال"، هكذا سمعته من بعض الإخوان. و الذي رأيته في كتابه أنه قال له: "يا ولدي أراك تطلب هذا العلم و لا تنال منه ما تريد إلا بالذل"، فدخل فيه و سكن إلى مماته، فلما ذاق سره و رأى ما فيه من الأسرار، و ما يقطع به المريد في سيره من المفاوز و القفار سَيَّر أصحابه عليه، و دلهم على استعماله، فكان أصل مشروعيته قتل النفوس، لا قبض الفلوس، فمن استعمله لقتل النفوس، و لج حضرة القدوس، إذ ما حجبنا عنها إلا حياة النفوس، و من استعمله لقبض الفلوس نال الشقاء و البؤس، و ينبغي أن يكون في حال السؤال يده مشيرة إلى الخلق و قلبه معلق بالحق، قال في «المباحث»:
جزاكم الله خيرا وبارك الله في وقتكم ونفعنا بكم
ردحذف