في بيان ما يكره من الصلاة وما يفسدها وما لا يفسدها
قال الشيخ ابن القيم رضي الله عنه :
- يستحب أن يكون نظر المصلي في قيامه إلى موضع سجوده وذلك لما نزل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢)} [المؤمنون: ١ - ٢]، قال أبو طلحة: ما الخشوع يا رسول الله؟ قال: "أن يكون منتهى بصر المصلي: موضع سجوده، وفي الركوع: إلى ظهر قدميه، وفي السجود: إلى أرنبة أنفه، وفي القعود: إلى حجره، وعند التسليمة الأولى: إلى كتفه الأيمن، وعند الثانية: إلى كتفه الأيسر".
- (ولا يلتفت) لقوله عليه السلام: "لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه" رواه أبو داود والنسائي.
- و الالتفات المكروه: أن يلوي عنقه، حتى يخرج وجهه من أن يكون إلى جهة القبلة، فأما لو نظر بمؤخر عينيه يمنة أو يسرة من غير أن يلوي عنقه: فلا يكره، لأنه صلى الله عليه وسلم "كان يلاحظ أصحابه في صلاته بموق عينيه".
- (ولا يعبث بثوبه وعضوه) لقوله عليه السلام: "إن الله كره ثلاثاً: الرفث في الصوم والعبث في الصلاة والضحك في المقابر" وإذا انتقض كور عمامته فسواها: فصلاته تامة.
وإن عبث بلحيته أو حك بعض جسده: لا تفسد صلاته، وعلى قياس ما حكي عن عن أبي نصر: أن من نتف شعره ثلاثاً: فسدت صلاته، وكذا إذا حك جسده أو عبث بلحيته ثلاثاً، وكذلك إذا لبس المصلي الخفين، والمرأة إذا تخمرت: فسدت صلاتها.
- (ويكره تغميض عينيه) لقوله عليه السلام: "إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه".
- (ويكره سبقه الإمام) أي سبق المقتدي الإمام (في الأفعال) بأن يركع قبل أن يركع الإمام، أو يرفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام، لأنه مخالفة، وهو مأمور بالموافقة، لقوله عليه السلام: "لا تبادروني بالركوع والسجود" رواه أبو داود، وروى أبو داود أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى، أو ألا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه والإمام ساجد أن يحول الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار".
وهذا فيما إذا وجدت المشاركة مع الإمام، وأما إذا لم توجد أصلاً تفسد صلاته.
- (وعد الآي) أي يكره عد الآي والتسبيح، هذا عند أبي حنيفة، لأنه ليس من أعمال الصلاة، وعندهما: لا بأس به، وبه قال الشافعي.
قيل: الخلاف في المكتوبة، ولا خلاف في التطوع أنه لا يكره، وقيل: بالعكس.
والغمز برؤوس الأصابع أو الحفظ بالقلب: لا يكره اتفاقاً، وأشار في الإيضاح: إلى أن يكره العد بالقلب أيضاً. (وحمل شيء) أي يكره حمل شيء في يده أو فمه، لأنه نوع عبث، ومنه قلب الحصى، إلا أن لا يمكنه السجود فيسويه مرة، لأنه جاء في الخبر عن سيد البشر في تسوية الحجر: "يا أبا ذر، مرة أو ذر".
- (وتطويل الإمام) أي يكره تطويل الإمام (الركوع لداخل يعرفه) لأن العبادة ينبغي أن تكون خالصة لله تعالى، وفيه نوع اشتراك، حتى قيل: تفسد صلاته، وقيل: يخشى عليه الكفر، وإذا لم يعرف الداخل: لا يكره، وقيل: إن كان الداخل غنياً: يكره، وإن كان فقيراً: لا يكره.
-(ويكره افتتاح الصلاة وبه حاجة) أي إلى الخلاء من البول أو الغائط، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة" ولأنه يشغله، ولا يتفرغ قلبه إلى الصلاة.
- (ويكره الصلاة خلف صف وحده مهما وجد فرجة) أي موضعاً خالياً في الصف، لتخلفه عن الجماعة بانفراده، حتى إذا لم يجد فرجة: لا يكره، للضرورة.
- (ولو صلى في مكان طاهر في الحمام ولا صورة فيه: لا يكره) وقيل: يكره مطلقاً، فقيل: لأنه موضع الشياطين، وقيل: لأنه مصب الغسلات، والأصح أنه لا يكره، ولكن بشرط أن يستر عورته، وأن يصلي في مكان نظيف، والاستدلال على الكراهة بأنه موضع الشياطين: ممنوع، فإن جميع المواضع لا تخلو عنهم، فينبغي أن تكره الصلاة خارج الحمام أيضاً، وليس كذلك، والاستدلال عليهما بأنه مصب الغسلات: مدفوع بالمكان الطاهر، وإنما قيد بقوله: (ولا صورة فيه) لأنه إذا كان فيه صورة: يكره.
- (وتكره القراءة في الحمام جهراً لا سراً) قلت: ينبغي أن لا تكره مطلقاً، لأن من يكرهها جهراً يستدل بأنه موضع الشياطين، وقد قلنا أن جميع المواضع لا تخلو عنهم، فيلزم أن تكره القراءة جهراً في سائر المواضع، والأمر بخلافه.
- (وتكره صورة ذي الروح) مثل صورة الأسد والفيل والآدمي والخيل والطير التي ينقشها المصورون في الجدران والسقوف، وينسجها النساج في البسط والفرش. قيده بقوله: (ذي روح) لأن صورة غير ذي روح: لا يكره، كالشجر ونحوه، لأنه لا يعبد.
و(في كل جهات المصلي) يعني سواء كانت في يمينه أو يساره أو أمامه أو وراءه أو فوقه أو تحته، وذلك لحديث جبريل عليه السلام: "إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب أو صورة" رواه مسلم. وبيت لا تدخله الملائكة شر البيوت، وأشدها كراهة أن يكون أمام المصلي، ثم فوق رأسه، ثم يمينه، ثم يساره، ثم خلفه.
إلا ممحوة الرأس لأن الصورة لا تعبد بلا رأس.
وممحوة الرأس: أن تكون مقطوعة الرأس، أو يمحى رأسها بخيط يخاط عليها، حتى لم يبق للرأس أثر أصلاً، ولو خيط ما بين الرأس والجيد: لا يعتبر، لأن من الطيور ما هو مطوق.
(أو الصغيرة جداً) وهذا أن يكون بحيث لا يبدو للناظر إلا بتأمل، لأن الصغيرة جداً لا تعبد، وكان على خاتم أبي هريرة ذبابتان ولو صلى على بساط مصور: لا يكره إن لم يسجد عليها، لأنه إهانة وليس بتعظيم، ولو كانت الصورة على وسادة ملقاة أو بساط مفروش: لم يكره، لأنها توطأ، فكان استهانة بالصورة، بخلاف ما لو كانت الوسادة منصوبة كالوسائد الكبار، أو كانت على الستر، لأنه تعظيم لها، ولو لبس ثوباً مصوراً: كره لشبهه بحامل الصنم، ولا تفسد صلاته في كل الفصول.
- (ولو استقبل تنوراً متقداً) أي يشعل فيه نار (أو كانوناً فيه نار يكره) لأنه يشبه عبادتها، بخلاف الشمع والسراج والمصحف والسيف ونحوها، لأن هذه الأشياء لا تعبد غالباً.-
- والعمل الكثير يقطع الصلاة أي يبطلها، وهو ما لا يوجد إلا باليدين، ويتفرع عليه مسائل منها:
- إذا وقعت عمامته من رأسه في الصلاة، فإن وضعها على رأسه بيده الواحدة: لا تفسد، وإن وضعها بيديه تفسد.
ومنها: إذا ألجم الدابة في الصلاة: تفسد، لأن الإلجام لا يكون إلا باليدين، بخلاف ما إذا خلعها، لأن الخلع يمكن بيد واحدة.
ومنها: إذا عقد إزاره في الصلاة، فإن عقدها بيده الواحدة: لا تفسد، وإن عقدها بيديه: تفسد.
وقيل: العمل الكثير ما اشتمل على العدد الثلاث، ويتفرع عليه مسائل منها: أن المصلي إذا تروح بمروحة مرتين لا تفسد صلاته، وإن تروح ثلاثاً: فسدت.
وقيل: العمل الكثير: كل عمل يكون مقصوداً للفاعل، على أن يفرد له مجلس على حدة، ويتفرع عليها مسائل منها:
أن المصلية إذا لمسها زوجها أو قبلها بشهوة: تفسد صلاتها.
ومنها: أن الصبي إذا مص ثديها وخرج اللبن: فسدت صلاتها.
وقيل: العمل الكثير هو ما يجزم الناظر إليه أنه ليس في الصلاة.
قال الصدر الشهيد: هو الصواب، واختاره الفضلي، وأشار المصنف إليه بقوله: (وهو المختار) فاستخرج ما يتفرع عليه من المسائل إن كنت على ذكر منها.
- (ومن صلى في الصحراء: نصب بين يديه سترة) لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها: لا يقطع الشيطان عمله" رواه أبو داود.
- (قدر ذراع فصاعداً) لما روي أنه عليه السلام قال: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال من مر وراء ذلك" أخرجه مسلم والترمذي. وروى صاحب السنن: أن آخر الرحل ذراع فما فوقه.
- (ويجعلها بحذاء أحد حاجبيه) لما روي عن المقداد أنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمداً" رواه أبو داود. لكي لا يقابله مستوياً مستقيماً بل كان يميل عنه.
- (ولا عبرة بالإلقاء ولا بالخط) يعني إذا تعذر غرز العود: لا يلقي ولا يخط، لأن المقصود لا يحصل به، وقيل: يضعه طولاً، وقيل: إن لم يكن معه ما يستتر به: يخط طولاً. وقيل: شبه المحراب.
- (ويأثم المار في موضع سجوده في الصحراء والمسجد الجامع) لقوله عليه السلام: "لو علم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لوقف ولو أربعين" رواه أبو داود، وقال أبو النضر: لا أدري قال: أربعين يوماً أو شهراً أو سنة، وقدر في
رواية أبي هريرة بسنة. وإنما يأثم إذا مر في موضع سجوده في الأصح، لأن هذا القدر من المكان حقه، وفي تحريم ما وراءه تضييق على المارة، وقيل: بقدر الصفيين، هذا في الصحراء، فإن كان في المسجد: إن كان بينهما حائل كإنسان أو اسطوانة: لا يكره، وإن لم يكن بينهما حائل والمسجد صغير: كره، أي: في أي مكان كان، والمسجد الكبير كالصحراء، وقيل كالمسجد الصغير.
(ويدرأ المار) أي يدفعه (إن لم يكن له سترة أو مر بينه وبينها) أي بين السترة (بإشارة أو تسبيح) لقوله عليه السلام: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرأوا ما استطعتم فإنما هو شيطان".
(ولا يدرأ بهما) أي بالإشارة والتسبيح جميعاً لحصول المقصود بأحدهما، ثم الإشارة تكون بالرأس أو العين أو غيرهما.
(وإن تنحنح بغير عذر) بأن لم يكن مضطراً إليه، بل كان لتحسين الصوت (فحصلت به) أي بالتنحنح (حروفاً) نحو: أح بالفتح والضم (بطلت) أي صلاته عندهما، خلافاً لأبي يوسف.
قوله: (وإن كان) أي التنحنح (بعذر) بأن كان مضطراً إليه لاجتماع البزاق في حلقه (فلا) أي فلا تبطل وإن حصلت حروف، لأنه مضطر إليه طبعاً، فصار كالعطاس والجشأ لو حصلت.
والله ولي التوفيق
جزاك الله خيرا
ردحذفاللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد
ردحذف