فلمّا خلق اللّه روح محمّد صلى الله عليه وسلم أوّلا من نور جماله كما قال اللّه تعالى في الحديث القدسيّ: «خلقت محمّدا أوّلا من نور وجهي».
و كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : «أوّل ما خلق اللّه روحي، و أوّل ما خلق اللّه نوري، و أوّل ما خلق اللّه القلم، و أوّل ما خلق اللّه العقل».
و المراد منهم شيء واحد و هو الحقيقة المحمّديّة، لكن سمّي نورا لكونه صافيّا عن الظّلمانيّة الجلاليّة كما قال اللّه تعالى:
قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ [المائدة: الآية 15].
و عقلا لكونه مدركا للكلّيّات. و قلما لكونه سببا لنقل العلم، كما أنّ القلم سبب نقل العلم في عالم الحروفات؛ فالرّوح المحمّديّ خلاصة الأكوان، و أوّل الكائنات و أصلها كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : «أنا من اللّه، و المؤمنون منّي»
فخلق منه الأرواح كلّها في عالم اللاهوت في أحسن التّقويم الحقيقيّ، و هو اسم حجلة الأنس في ذلك العالم، و هو الوطن الأصليّ. فلمّا مضى عليها أربعة آلاف سنة خلق اللّه العرش من نور عين محمّد صلى الله عليه وسلم، و بواقي الكلّيّات منه، فردّت الأرواح إلى درك أسفل الكائنات- أعني الأجساد- كما قال اللّه تعالى:
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) [التّين: الآية 5]-
يعني أنزلهم أوّلا من عالم اللاهوت إلى عالم الجبروت، و ألبسهم اللّه تعالى بنور الجبروت كسوة بين الحرمين- و هو الرّوح السّلطانيّ-
ثمّ أنزلهم بهذه الكسوة إلى عالم الملكوت، ثمّ كساهم بنور الملكوت- و هو الرّوح الرّوانيّ-
ثمّ أنزلهم إلى عالم الملك و كساهم بنور الملك
و هو الرّوح الجسمانيّ- ثمّ خلق اللّه الأجساد كما قال اللّه تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ ... [طه: الآية 55]. ثمّ أمر اللّه تعالى الأرواح أن تدخل في الأجساد فدخلت بأمر اللّه تعالى كما قال اللّه تعالى: ... وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ...
[الحجر: الآية 29].
فلمّا تعلّقت الأرواح بالأجساد نسبت ما اتّخذت من عهد اللّه الميثاق في يوم: ...
أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ ... [الأعراف: الآية 172]
فلم ترجع إلى الوطن الأصليّ، فترحّم الرّحمن المستعان عليهم فأنزل إليهم كتابا سماويّا، تذكرة لهم بذلك الوطن الأصليّ كما قال تعالى: وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم: الآية 5]-
أي: أيّام وصاله فيما سبق مع الأرواح- فجميع الأنبياء عليهم الصّلاة و السّلام جاؤوا في الدنيا و ذهبوا إلى الآخرة لذلك التّنبيه، فقلّما يذكر منهم وطنه الأصليّ و يرجع و يشتاق إليه، و يصل إلى العالم الأصليّ، حتّى أفضت النّبوّة إلى الرّوح الأعظم المحمّديّ خاتم الأنبياء عليه أفضل الصّلوات و أكمل التّحيّات و على جميع الأنبياء و المرسلين فأرسله اللّه تعالى إلى هؤلاء النّاس الغافلين ليفتح عين بصيرتهم من نوم الغفلة، و يدعوهم إلى اللّه تعالى و وصاله، و لقاء جماله كما قال اللّه تعالى:
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ... [يوسف: الآية 108]
و البصيرة عين الرّوح، تفتح في مقام الفؤاد للأولياء، و ذلك لا يحصل بعلم الظّاهر بل بعلم الباطن اللّدنيّ كما قال اللّه تعالى: ... وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف:
الآية 65]
فالواجب على الإنسان تحصيل تلك العين من أهل البصائر بأخذ التّلقين من وليّ مرشد يخبر من عالم اللّاهوت.
فيا أيّها الإخوان: انتبهوا و سارعوا إلى مغفرة من ربّكم بالتّوبة فادخلوا في الطّريق، و ارجعوا إلى ربّكم مع هذه القوافل الرّوحانيّة، فعن قريب ينقطع الطّريق و لا يوجد الرّفيق إلى ذلك العالم، فما جئنا بتنقية هذه الدّنيا الدّنيّة الخرّابيّة و لنقنع بالمهمّات النّفسانيّة الخبيثة فنبيكم عليه الصّلاة و السّلام لأجلكم منتظر مغموم كما قال رسول اللّه ﷺ:
«غمّي لأجل أمّتي الّذين في آخر الزّمان».
فالعلم المنزّل علينا علمان؛ ظاهر و باطن- يعني الشّريعة و المعرفة- فأمر بالشّريعة على ظاهرنا، و بالمعرفة على باطننا، لينتج من اجتماعهما علم الحقيقة كما قال اللّه تعالى:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) [الرّحمن: الآيتان 19، 20]
و إلّا فبمجرّد علم الظّاهر لا تحصل الحقيقة، و لا يصل إلى المقصود،
و العبادة الكاملة بهما، لا بواحدهما، كما قال اللّه تعالى:
وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
[الذّاريات: الآية 56]-
أي: ليعرفوني- فمن لم يعرفه كيف يعبده؟.
فالمعرفة إنّما تحصل بكشف حجاب النّفس عن مرآة القلب بتصفيته؛ فيرى فيها جمال الكنز المخفيّ في سرّ لبّ القلب كما قال اللّه تعالى في الحديث القدسيّ:
«كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف»
فلمّا بيّن اللّه تعالى خلق الإنسان لمعرفته وجبت عليه معرفته.
فالمعرفة نوعان: معرفة صفات اللّه، و معرفة ذات اللّه.
فمعرفة الصّفات تكون حظّ الجسم في الدّارين، و معرفة الذّات تكون حظّ الرّوح القدسيّ في الآخرة كما قال اللّه تعالى: ... وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ... [البقرة: الآية 87] و هم مؤيدون بروح القدس.
و هاتان المعرفتان لا تحصلان إلّا بالعلمين؛ علم الظّاهر و علم الباطن كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : «العلم علمان: علم باللسان؛
و ذلك حجّة اللّه تعالى على ابن آدم. و علم بالجنان؛ فذلك العلم النّافع»
و الإنسان يحتاج أوّلا إلى علم الشّريعة ليحصّل الرّوح كسب البدن به و هو الدرجات. ثمّ يحتاج إلى علم الباطن ليحصّل الرّوح كسب معرفته في علم المعرفة، و ذلك لا يحصل إلّا بترك الرّسومات الّتي هي مخالفة للشّريعة و الطّريقة، و حصوله بقبول المشقّات النّفسانيّة و الرّوحانيّة لرضاء اللّه تعالى بلا رياء و لا سمعة كما قال اللّه تعالى: ... فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:
الآية 110].
و عالم المعرفة: عالم اللّاهوت، و هو الوطن الأصليّ المذكور الّذي خلق فيه الرّوح القدسيّ في أحسن التّقويم.
و المراد من الرّوح القدسيّ الإنسان الحقيقيّ الّذي أودع في لبّ القلب، و يظهر وجوده بالتّوبة و التّلقين. و ملازمة كلمة لا إله إلا اللّه بلسانه أوّلا، و بعده بحياة القلب
و بعد حياة القلب يحصل بلسان الجنان، و تسميه المتصوفة واهل الله: طفل المعاني؛ لأنّه من المعنويات القدسيّة و تسميته طفلا لنكات:
أحدها: أنّ تولّده من القلب كتولّد الطّفل من الأمّ فيربيّه القلب كتربية الأمّ الولد فيكبر قليلا قليلا إلى البلوغ.
و الثّانية: أنّ تعليم العلم للأطفال غالب؛ فتعليم علم المعرفة لهذا الطّفل أيضا غالب.
و الثالثة: أنّ الطّفل مطهّر من أدناس الذّنوب، فهذا أيضا مطهّر من دنس الشّرك و الغفلة و الجسمانيّة.
و الرّابعة: أنّ الأكثر في الرّوح يرى في هذه الصّورة الصّافية للولد؛ و لذلك يرى في المنامات على صورة المرد كالملائكة.
و الخامسة: أنّ اللّه تعالى وصف أبناء جنّته بالطّفليّة بقوله تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) [الواقعة: الآية 17]، و بقوله تعالى: ... غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطّور: الآية 24].
و السّادسة: أنّ هذا الاسم كان له باعتبار لطافته و نظافته.
و السّابعة: أنّ إطلاقه على سبيل المجاز باعتبار تعلّقه بالبدن، و تمثيله بصورة البشر بناء على أنّ إطلاقه عليه لأجل ملاحته لا لأجل استصغاره،
و بالنّظر إلى بداية حاله، و هو الإنسان الحقيقيّ؛ لأنّ له أنسيّة مع اللّه تعالى.
فالجسم و الجسمانيّ ليس محرما له لقوله : «لي مع اللّه وقت لا يسع فيه ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل».
و المراد من النّبيّ المرسل بشريّة النّبيّ. و من الملك المقرّب روحانيّته الّتي خلقت من نور الجبروت، كما أنّ الملك من نور الجبروت فلا يدخل في نور اللّاهوت. و قال رسول اللّه :
«إن للّه جنّة لا فيها حور و لا قصور و لا جنان و لا عسل و لا لبن»، بل ينظر إلى وجه اللّه تعالى كما قال اللّه تعالى:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) [القيامة: الآيتان 22، 23]
و كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : «سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر» و لو دخل الملك و الجسمانيّة في هذه العالم لاحترقا كما قال اللّه تعالى في الحديث القدسيّ:
«لو كشفت سبحات وجهي جلالي لاحترق كلّ ما مدّ بصري»، و كما قال جبرائيل عليه السلام : «لو دنوت أنملة لاحترقت»
والله ولي التوفيق
أخي المستمع لاتنسى أن تصل وتسلم على النبي محمد وعلى آل محمد
الله في غاية الجمال
ردحذفجزاك الله خيرا كثيرا
سبحان الله العظيم الدرس شرحه رائع و واضح يشرح بالتفصيل الباطن الدي هو مجهول لكثير من الناس عشته وانا جاهلة به جزاك الله كل خير حتى ولو وصل متأخرا اللهم صلي على النبي محمد وعلى آله وسلم
ردحذف