لا تدبر وانت في حضرة الملك
من كتاب شرح الحكم العطائية
أَرِحْ نَفْسَكَ مِنَ التَّدْبيرِ. فَما قامَ بِهِ غَيرُكَ عَنْكَ لا تَقُمْ بهِ لِنَفْسِكَ.
التدبير في اللغة : هو النظر في الأمور وأواخرها، وفي الاصطلاح :هو كما قال الشيخ زروق رضي الله عنه: "تقدير شؤون يكون عليها في المستقبل بما يخاف أو يرجى بالحكم لا بالتفويض، فإن كان مع تفويض وهو أخروي فَنِيَّةٌ خير، أو طبيعي فشهوة أو دنيوي فأمنية".
فاقتضى كلامه أن التدبير على ثلاثة أقسام : قسم مذموم وقسم مطلوب وقسم مباح، فأما القسم المذموم فهو الذي يصحبه الجزم والتصميم سواء كان دينياً أو دنيوياً لما فيه من قلة الأدب وما يتعجله لنفسه من التعب إذ ما قام به الحي القيوم عنك لا تقوم به أنت عن نفسك، وغالب ما تدبره لنفسك لا تساعده رياح الأقدار، وتعقبه الهموم والأكدار، ولذلك قال أحمد بن مسروق:" من ترك التدبير فهو في راحة"، وقال سهل بن عبد الله :"ذروا التدبير والاختيار فإنهما يكدران على الناس عيشهم"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله جعل الروح والراحة في الرضى واليقين"، وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: "لا تختر من أمرك شيئاً، واختر أن لا تختار وفر من ذلك المختار ومن فرارك ومن كل شيء إلى الله تعالى وربك يخلق ما يشاء ويختار" وقال أيضاً:" إن كان ولا بد من التدبير فدبر إن لا تدبر" وقيل:" من لم يدبر دبر له" وقال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه:" من أوصاف الولي الكامل أن لا يكون محتاجاً إلا إلى الحال الذي يقيمه مولاه في الوقت" يعني ماله مراد إلا ما يبرز من عنصر القدرة".
فكلام هؤلاء السادات محمول على ما إذا كان بالنفس مع الجزم، وإما ما كان مع التفويض فليس بمذموم ما لم يَطُلْ.
وأما القسم المطلوب : فهو تدبير ما كلفت به من الواجبات وما ندبت إليه من الطاعات مع تفويض المشيئة والنظر إلى القدرة وهذا يسمى النية الصالحة، وقد قال عليه السلام : "نِيَّةُ المُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ" وقال أيضاً حاكياً عن الله سبحانه : "إذا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعَمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً".. الحديث، وهذا مفهوم قول الشيخ : "فما قام به غيرك"، إذ مفهومه أن ما لم يقم به عنك وهو الطاعات لا يضرك تدبيره، ولذلك قال إبراهيم الخواص رضي الله عنه : "العلم كله في كلمتين : لا تتكلف ما كفيت، ولا تضيع ما استكفيت"، فقوله : "لا تتكلف ما كفيت" هو القسم الأول المذموم، وقوله "ولا تضيع ما استكفيت" هو القسم الثاني المطلوب، وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : "وكل مختارات الشرع وترتيباته ليس لك منه شيء، إنما هو مختار الله لك واسمع وأَطع، وهذا محل الفقه الرباني، والعلم الإلهامي وهو أرض لتنزل علم الحقيقة المأخوذة عن الله تعالى لمن استوى"، وقوله : "لمن استوى" أي كَمُلَ عقله، وتَمَّتْ معرفته، واستوت حقيقته مع شريعته، لكن لا ينبغي الاسترسال معه فيشغله عن الله.
وأما القسم المباح : فهو التدبير في أمر دنيوي أو طبيعي مع التفويض للمشيئة والنظر لما يبرز من القدرة غير معول على شيء من ذلك، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم : "التَّدْبِيرُ نِصْفُ العَيْشِ" بشرط أن لا يردده المرة بعد المرة، فالقدر المباح منه هو مروره على القلب كالريح، يدخل من طاق ويخرج من أخرى وهذا هو التدبير بالله، وهو شأن العارفين المحققين، وعلامة كونه بالله أنه إذا برز من القدرة عكس ما دبر لم ينقبض ولم يضطرب بل يكون كما قال الشاعر :
سَلِّمْ لِسَلْمَى وَسِرْ حَيْثُ سَارَتْ... واتبعْ رياحَ القضا ودُرْ حيث دارت
وقال في التنوير : فائدة :"اعلم أن الأشياء إنما تُذَمُّ وتُمْدَحُ بما تؤدي إليه، فالتدبير المذموم ما شغلك عن الله، وعطلك عن القيام بخدمة الله، وصدك عن معاملة الله، والتدبير المحمود هو الذي يؤديك إلى القرب من الله، ويوصلك إلى مرضاة الله". أنظر بقية كلامه.
فهذا تحرير ما ظهر لي في شأن التدبير، وقد ألف الشيخ رضي الله عنه فيه كتاباً سماه : "التنوير في إسقاط التدبير" أحسن فيه وأجاد، ومرجعه إلى ما ذكرناه والله تعالى أعلم.
ولما كَمَّلَهُ اطَّلَعَ عليه الولي الكامل سيدي ياقوت العرشي، فلما طالعه قال له : جميع ما قلت مجموع في بيتين وهما هاتان :
ما ثَمَّ إلَّا مَا أَرادَ ... فاترك همومك وانطرح
واترك شواغلك التي ... شُغِلْتَ بها تسترح
والله ولي التوفيق
اخي المستمع لاتنسى أن تصل وتسلم على النبي محمد وعلى آل محمد