مقام التسليم
للتسليم لله تعالى مقامان لا يتم إلا بهما، أحدهما التسليم لأمر الله الشرعي، والثاني التسليم لأمر الله القدري.
وإنما يتم التسليم لأمر الله الشرعي بتجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، تحقيقا لقول الله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"، وحقيقة ذلك الاستجابة لأمر الله ونهيه، والتصديق الجازم بخبره، وعدم تقييد مبدأ التسليم للنصوص الشرعية بأي قيد، لا بمعارض عقلي، ولا بكشف صوفي، ولا بتقليد لإمام أو التزام بمذهب مع تبين دلالة النصوص على خلافه.
وتتبين حقيقة هذا التسليم على وجهها بمعرفة حال الصحابة رضي الله عنهم، وما كانوا عليه من التسليم بخبر الله وأمره دون أدنى تردد أو اعتراض، ومما يظهر به فضلهم على جميع الأمة ممن جاء بعدهم أنهم قد عايشوا التنزيل فما كان منهم في جميع أحوالهم إلا الاستجابة لكل ما يتجدد من شرائع الدين وأحكامه بمجرد علمهم بها.
وتأمل حال أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أشكل على كفار قريش خبر الإسراء والمعراج، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبرهم به، وظنوا أن ما حصل لهم من الشك ربما يحصل لأبي بكر رضي الله عنه، لكنه واجههم بقوله دون تردد: "لئن قاله لقد صدق، إنه ليخبرني الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض، في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أعجب مما تعجبون منه".
وتأمل في سرعة استجابتهم للأمر يأتي به الوحي ما كان من حال بعض الصحابة الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس، على الحال التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فلما نزل الوحي بتحويل القبلة، وجاء أحد الصحابة ممن صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أولئك الصحابة يستقبلون بيت المقدس في صلاتهم، قال لهم: "أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت".
وتأمل أيضا حالهم في سرعة الاستجابة للنهي حين حرمت الخمر فأمروا بإهراقها من فورهم حتى سالت بها سكك المدينة.
وأما التسليم لأمر الله القدري فيتحقق بالرضا بقضاء الله وقدره، وعدم الاعتراض والتسخط على ما يقدره الله على المؤمن، والجزم بكمال عدل الله وحكمته، وأنه لا يظلم أحدا، ولا يكون في قضائه وقدره إلا ما هو غاية الحكمة، والتحقق بمعنى ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك"، فإذا استقر اليقين بذلك في قلب المؤمن فوض أمره لله تعالى، وسلم أمره لله تعالى تسليما تاما لا اعتراض معه، واجتهد في مقاومة ما قد يحصل له من التشويش والتسخط وإن قل، وتجنب ما قد يلقيه الشيطان في قلبه من أنه لو فعل كذا لكان كذا وكذا، وحرص على عدم تزكية نفسه في هذه المقامات الخفية، فإن ما يقع في النفوس من ذلك مما قد يخفى على كثير من الناس، مع أنه يندر أن يسلم منه أحد، ويخشى على من يزكي نفسه في هذا المقام أن يكون ممن أظلم قلبه حتى لم يبصر ما ابتلي به، فاللهم رحمتك ولطفك في النجاة مما يعارض التسليم بقضائك وقدرك.
وتأمل أيها الحريص على نجاة نفسه بعين قلبك ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى حيث يقول: "أكثر الخلق، بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما استحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعتبا على القدر، وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك…
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله تعالى، وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم،فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى".
والموفق هو من جمع بين هذين المقامين في التسليم لرب العالمين، فاحذر وأنت تسير في طريق العبودية كل ما يشوش عليك التحقق بهما، من الشبه العارضة أو الشهوات الصارفة أو الظنون الكاذبة، واعلم أنك في جهاد دائم لتصحيح إيمانك وتجديده حتى يأتيك اليقين، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين".
للتسليم لله تعالى مقامان لا يتم إلا بهما، أحدهما التسليم لأمر الله الشرعي، والثاني التسليم لأمر الله القدري.
وإنما يتم التسليم لأمر الله الشرعي بتجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، تحقيقا لقول الله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"، وحقيقة ذلك الاستجابة لأمر الله ونهيه، والتصديق الجازم بخبره، وعدم تقييد مبدأ التسليم للنصوص الشرعية بأي قيد، لا بمعارض عقلي، ولا بكشف صوفي، ولا بتقليد لإمام أو التزام بمذهب مع تبين دلالة النصوص على خلافه.
وتتبين حقيقة هذا التسليم على وجهها بمعرفة حال الصحابة رضي الله عنهم، وما كانوا عليه من التسليم بخبر الله وأمره دون أدنى تردد أو اعتراض، ومما يظهر به فضلهم على جميع الأمة ممن جاء بعدهم أنهم قد عايشوا التنزيل فما كان منهم في جميع أحوالهم إلا الاستجابة لكل ما يتجدد من شرائع الدين وأحكامه بمجرد علمهم بها.
وتأمل حال أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أشكل على كفار قريش خبر الإسراء والمعراج، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبرهم به، وظنوا أن ما حصل لهم من الشك ربما يحصل لأبي بكر رضي الله عنه، لكنه واجههم بقوله دون تردد: "لئن قاله لقد صدق، إنه ليخبرني الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض، في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أعجب مما تعجبون منه".
وتأمل في سرعة استجابتهم للأمر يأتي به الوحي ما كان من حال بعض الصحابة الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس، على الحال التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فلما نزل الوحي بتحويل القبلة، وجاء أحد الصحابة ممن صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أولئك الصحابة يستقبلون بيت المقدس في صلاتهم، قال لهم: "أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت".
وتأمل أيضا حالهم في سرعة الاستجابة للنهي حين حرمت الخمر فأمروا بإهراقها من فورهم حتى سالت بها سكك المدينة.
وأما التسليم لأمر الله القدري فيتحقق بالرضا بقضاء الله وقدره، وعدم الاعتراض والتسخط على ما يقدره الله على المؤمن، والجزم بكمال عدل الله وحكمته، وأنه لا يظلم أحدا، ولا يكون في قضائه وقدره إلا ما هو غاية الحكمة، والتحقق بمعنى ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك"، فإذا استقر اليقين بذلك في قلب المؤمن فوض أمره لله تعالى، وسلم أمره لله تعالى تسليما تاما لا اعتراض معه، واجتهد في مقاومة ما قد يحصل له من التشويش والتسخط وإن قل، وتجنب ما قد يلقيه الشيطان في قلبه من أنه لو فعل كذا لكان كذا وكذا، وحرص على عدم تزكية نفسه في هذه المقامات الخفية، فإن ما يقع في النفوس من ذلك مما قد يخفى على كثير من الناس، مع أنه يندر أن يسلم منه أحد، ويخشى على من يزكي نفسه في هذا المقام أن يكون ممن أظلم قلبه حتى لم يبصر ما ابتلي به، فاللهم رحمتك ولطفك في النجاة مما يعارض التسليم بقضائك وقدرك.
وتأمل أيها الحريص على نجاة نفسه بعين قلبك ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى حيث يقول: "أكثر الخلق، بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما استحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعتبا على القدر، وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك…
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله تعالى، وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم،فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى".
والموفق هو من جمع بين هذين المقامين في التسليم لرب العالمين، فاحذر وأنت تسير في طريق العبودية كل ما يشوش عليك التحقق بهما، من الشبه العارضة أو الشهوات الصارفة أو الظنون الكاذبة، واعلم أنك في جهاد دائم لتصحيح إيمانك وتجديده حتى يأتيك اليقين، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين".
والله ولي التوفيق
اخي القاريء لاتنسى أن تصل وتسلم على النبي محمد وعلى آل محمد