بيان علامات أمراض القلوب و علامات عودها إلى الصحة



بيان علامات أمراض القلوب و علامات عودها إلى الصحة


اعلم أن كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به، وإنما مرضه أن يتعذر عليه فعله الذي خلق له حتى لا يصدر منه أصلاً أو يصدر منه مع نوع من الاضطراب. فمرض اليد أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله؛ وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله تعالى وعبادته والتلذذ بذكره وإيثاره ذلك على كل شهوة سواه والاستعانة بجميع الشهوات والأعضاء عليه قال الله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ففي كل عضو فائدة وفائدة القلب الحكمة والمعرفة. وخاصية النفس التي للآدمي، ما يتميز بها عن البهائم، فإنه لم يتميز عنها بالقوة على الأكل والوقاع والإبصار أو غيرها: بل بمعرفة الأشياء على ما هي عليه. وأصل الأشياء وموجدها ومخترعها هو الله عز وجل الذي جعلها أشياء. فلو عرف كل شيء ولم يعرف الله عز وجل فكأنه لم يعرف شيئاً. وعلامة المعرفة المحبة فمن عرف الله تعالى أحبه وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه الدنيا، ولا غيرها من المحبوبات كما قال الله تعالى "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم" إلى قوله "أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره" فمن عنده شيء أحب إليه من الله فقلبه مريض، كما أن كل معدة صار الطين أحب إليها من الخبز والماء أو سقطت شهوتها عن الخبز والماء فهي مريضة. فهذه علامات المرض وبهذا يعرف أن القلوب كلها مريضة إلا ما شاء الله إلا أن من الأمراض ما لا يعرفها صاحبها، ومرض القلب مما لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه. وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه فإن دواءه مخالفة الشهوات وهو نزع الروح. فإن وجد من نفسه قوة الصبر عليه لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، فإن الأطباء هم العلماء وقد استولى عليهم المرض فالطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الداء عضالاً والمرض مزمناً واندرس هذا العلم، وأنكر بالكلية طب القلوب وأنكر مرضها، وأقبل الخلق على حب الدنيا، وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات ومراءات. فهذه علامات أصول الأمراض.
وأما علامات عودها إلى الصحة بعد المعالجة فهو أن ينظر في العلة التي يعالجها، فإن كان يعالج داء البخل فهو المهلك المبعد عن الله عز وجل وإنما علاجه ببذل المال وإنفاقه، ولكنه قد يبذل المال إلى حد يصير به مبذراً فيكون التبذير أيضاً داء، فكان كما يعالج البرودة بالحرارة حتى تغلب الحرارة فهو أيضاً داء، بل المطلوب الاعتدال بين الحرارة والبرودة. وكذلك المطلوب الاعتدال بين التبذير والتقتير حتى يكون على الوسط وفي غاية من البعد عن الطرفين، فإن أردت أن تعرف الوسط فانظر إلى الفعل الذي يوجبه الخلق المحذور، فإن كان أسهل عليك وألذ من الذي يضاده فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له، مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقه فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل فزد في المواظبة على البذل، فإن صار البذل على غير المستحق ألذ عندك وأخف من الإمساك بالحق فقد غلب عليك التبذير فارجع إلى المواظبة على الإمساك، فلا تزال تراقب نفسك وتستدل على خلقك بتيسير الأفعال وتعسيرها حتى تنقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى المال فلا تميل إلى بذله ولا إلى إمساكه، بل يصير عندك كالماء فلا تطلب فيه إلا إمساكه لحاجة محتاج أو بذله لحاجة محتاج، ولا يترجح عندك البذل على الإمساك فكل قلب صار كذلك فقد أتى الله سليماً عن هذا المقام خاصة. ويجب أن يكون سليماً عن سائر الأخلاق حتى لا يكون له علاقة بشيء مما يتعلق بالدنيا، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها غير ملتفتة إليها ولا متشوقة إلى أسبابها، فعند ذلك ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنة راضية مرضية داخلة في زمرة عباد الله المقربين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض بل هو أدق من الشعر وأحد من السيف فلا جرم أن من استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة، وقلما ينفك العبد عن ميل عن الصراط المستقيم - أعني الوسط - حتى لا يميل إلى أحد الجانبين فيكون قلبه معلقاً بالجانب الذي مال إليه. ولذلك لا ينفك عن عذاب ما واجتياز على النار وإن كان مثل البرق قال الله تعالى "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً. ثم ننجي الذين اتقوا" أي الذين كان قربهم إلى الصراط المستقيم أكثر من بعدهم عنه. ولأجل عسر الاستقامة وجب على كل عبد أن يدعو الله تعالى في كل يوم سبع عشرة مرة في قوله "اهدنا الصراط المستقيم" إذ وجب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
فقد روي أن بعضهم رأى رسول الله ﷺ في المنام فقال: قد قلت يا رسول الله شيبتني هود، فلم قلت ذلك? فقال عليه السلام لقوله تعالى "فاستقم كما أمرت" فالاستقامة على سواء السبيل في غاية الغموض، ولكن ينبغي أن يجتهد الإنسان في القرب من الاستقامة إن لم يقدر على حقيقتها.

فكل من أراد النجاة فلا نجاة له إلا بالعمل الصالح، ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه، وليعددها وليشتغل بعلاج واحد واحد فيها على الترتيب. فنسأل الله الكريم أن يجعلنا من المتقين.

والله ولي التوفيق 

أخي القاريء رطب لسانك بالصلاة والسلام على النبي محمد وعلى آل محمد 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال