تأويل قصة بني إسرائيل بعد نجاتهم من فرعون (الآيات 40–48) مع بيان علاقتها بالسالك في طريق الله


 

تأويل قصة بني إسرائيل بعد نجاتهم من فرعون 

(الآيات 40–48) مع بيان علاقتها بالسالك في طريق الله


              ❖───✦•◈•✦───❖


حين يذكر الله بني إسرائيل بعد نجاتهم من فرعون، فهو لا يحدّثنا عن قومٍ مضوا، بل يكشف مرآة خفيّة يرى فيها السالك نفسه في كل مرحلة من مراحل سيره. فبنو إسرائيل رمزٌ لنفس الإنسان حين يخلصها الله من رقّ الهوى، لكنها لا تزال تحمل آثار العبودية لما كانت تهواه، والفرعون الخارجي ليس أشدّ من الفرعون الداخلي الذي يسكن النفس ويقول لها: "أنا ربّكم الأعلى". لذلك قال العارفون: “كل بني إسرائيل في القلب، وكل فرعون يسكن في النفس، ولا يخرج إلا بالذكر والجهاد”.


يذكّرهم الله بنعمه: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، وهذه النعمة في ظاهرها نجاتهم من البحر، لكنها في باطن السير هي إشارات إلى ساعات الواردات، إلى تلك اللحظة التي ينقذك الله فيها من غرقٍ روحي لا يشعر به إلا السالك في بدايته. فإذا لم يشهد السالك هذه اللحظات فهيّأ نفسه، ضاعت عليه منازل الطريق. قال أبو علي الدقّاق: “من نسي ساعات النعمة حُرم دوام الوارد”.


ثم يعاتبهم على نقض العهد، فالعهد الأول هو {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}. وكل سالك يدخل الطريق إنما يجدد ذلك العهد مع الله، فإذا رجع إلى الدنيا، أو انشغل بالقالب وظنّ أنه كالعامة، كان كمن نقض الميثاق. وبنو إسرائيل لما رأوا البحر ينشقّ لهم، ثم عادوا إلى الاعتراض والتحريف والطلب، هو مثال لما يقع فيه كثير من السالكين: تلوح لهم أنوار، فإذا زالت عادوا إلى غفلتهم. قال الجنيد: “الأنوار عواري، فإذا لم يصن السالك قلبه سُحبت منه”.


وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} هو خطاب للهيبة، وهي من أعظم مقامات العارفين، لأن السالك إذا لم يدخل حضرة الهيبة، بقي قلبه على حظّه من الدنيا، وإذا دخلها عرف أن الله وحده هو الذي يُخيف ويُؤمِّن، ويُعطي ويمنع. ولهذا قال أبو يزيد البسطامي: “ما رأيت شيئًا إلا ورأيتُ الله قبله وبعده ومعه”، وهذا هو معنى الهيبة التي يُطلَب من السالك أن يحملها فلا يلتفت لأحد.


ثم يصف الله حالهم مع الكتاب: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}. وهذا أصلٌ في السير: أن السالك لا ينشغل بإصلاح غيره قبل أن يصلح باطنه. فالعارف يبدأ بنفسه، فإذا صُلح باطنه تكلّم على نور. أما إذا تكلّم قبل التخلية والتحلية، كان كمن يحمل كتابًا لا يعمل به. قال سهل التستري: “من دعا الخلق قبل أن يدعو نفسه، كان مفضوحًا في الدنيا، مخذولًا في الآخرة”.


ويذكّرهم الله بتركهم للتدبر الحقيقي: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. والعقل في اصطلاح العارفين ليس التفكير، بل نورٌ في القلب يُدرِك به حقيقة الأشياء. فبنو إسرائيل كانت عندهم التوراة، لكن حجاب الهوى كان يمنعهم من شهود نورها. وكذلك السالك إذا حمل العلم بلا عمل صار العلم عليه حجابًا. قال ابن عطاء الله: “العلم إن قرّبك إلى الله نفع، وإن حجبك عنه ضرّ”.


ثم تأتي آية عظيمة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}. وفي العرفان: الصبر هو حبس النفس عن الاعتراض، والصلاة هي صعود الروح إلى أصلها، فالصبر قيدٌ يمنع السقوط، والصلاة جناح يرفعه. فمن جمعهما ارتفع، ومن استغنى بواحد دون الآخر لم يثبت في الطريق. قال ذو النون: “الصلاة بابٌ، والصبر مفتاحه”.


ثم يقول الحق: {إِنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}. وهذا ليس امتيازًا لقومٍ مضوا، بل إشارة إلى أن كل من حمل نور الهداية فهو مفضَّل بقدر ما يحمل من نور. فمن دخل طريق السلوك وذاق لذّة القرب، فقد خُصّ بفضلٍ ليس لمن بقي في الغفلة. لكن هذا الفضل ليس ضمانًا، فقد يتراجع صاحبه إذا ترك المجاهدة.


وتأتي الآية الجامعة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}. في ظاهرها يوم القيامة، وفي باطنها يومٌ يشهده السالك في الدنيا قبل الآخرة، وهو اليوم الذي يقف فيه وحده بين يدي الله عند كل لحظة ابتلاء، ولا يغنيه شيخ ولا صحبة ولا عمل، بل يغنيه صدق قلبه. قال إبراهيم بن أدهم: “السير إلى الله سفرٌ لا يصحبك فيه إلا صدقك”


               ❖───✦•◈•✦───❖


{ وماتوفيقي إلا بالله ﴾

#الطريقةالمحمديةالعليةالهاشميةالشريفة


⚜إشراقات لدنية

قناة عِلْمُ تَأْوِيلِ بَاطِنِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ* 

https://t.me/+ziHSQdEwQjkxMzRk

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال