وقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِين
حَقِيقٌ واجب عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ لأنني معصوم من النطق بغيره، فإن كذَّبتني فقد جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي:
بمعجزة واضحة، تدل على صدقي، وهي العصا.
فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: فخل سبيلهم، حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة: التي هي وطنُ آبائهم، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة
وذلك أنه لما تُوفِّي يوسف عليه السلام غلب عليهم فرعونُ واستعبدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى عليه السلام وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى رسولاً إلى فرعون: أربعمائة عام.
ولمَّا خرجوا إلى الصحراء لمقابلته
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ
خيّروا موسى مراعاة للأدب، وإظهارًا للجلادة، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله، ولذلك عبَّروا عن إلقاء موسى بالفعل وعن إلقائهم بالجملة الاسمية،
وفيه إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه. ولذلك أسعفهم، قالَ أَلْقُوا أسعفهم كرمًا ومسامحة وازدراءً بهم،
فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، بأن خيلوا إليها خلاف ما في حقيقة الأمر، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي: خوفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في فَنّه.
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ، فألقاها، فصارت ثعبانًا عظيمًا، على قدر الجبل، وقيل: إنه طال حتى جاوز النيل، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي: تبتلع ما يَأْفِكُونَ ما يُزَوِّرُونَهُ من إفكهم وكذبهم.
رُوِي أنها لما ابتلعت حبالهم وعصيهم، وكانت ملأت الوادي، فابتلعتها بأسرها، أقبلت على الحاضرين، فهربوا وازدحموا حتى هلك منهم جمع عظيم
ثم أخذها موسى عليه السلام فصارت عصًا كما كانت،
فقال السحرة: لو كان هذا سحرًا لبقيت حبالنا وعصينا.
فَوَقَعَ الْحَقُّ أي: ثبت بظهور أمره وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي:
صاروا أذلاء مبهوتين، أو انقلبوا إلى المدينة مقهورين.
ولما رأى السحرة ذلك علموا أنه ليس من طوق البشر، وليس هو من السحر، فتحققوا أنه من عند الله، فآمنوا،
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠)
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥)
وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
قالُوا أي: السحرة لما خوفهم ؟
إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت، فيكرم مثوانا، فلا نُبالي بوعيدك، كأنهم اشتاقوا إلى اللقاء، فهان عليهم وعيده، أو إنا وأنت إلى ربنا منقلبون، فيحكم بيننا وبينك، وَما تَنْقِمُ مِنَّا
أي:
وما تعيب علينا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا، وهو لا يعاب عند العقلاء، لأنه خير الأعمال وأصل المناقب ومحاسن الخلال ثم فزعوا إلى الله
فقالوا:
رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي: اصبب علينا صبرًا يغمرنا كما يُفرغ الماء على الشيء فيغمره وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام.
((الإشارة)):
انظر مَن سبقت له العناية، هؤلاء السحرة جاءوا يُحادون الله فأمسوا أولياء الله، فكم من خصوص تخرج من اللصوص، وانظر أيضًا صبرهم وثباتهم على دينهم، وعدم مبالاتهم بعدوهم، هكذا ينبغي أن يكون مَن مراده مولاه، لا يلتفت إلى شيء سواه، وعند هذه التصرفات يفتضح المُدّعُون ويثبت الصادقون، عند الامتحان يعز المرء أو يهان.
................................
والله ولي التوفيق
أخي القارىء
لاتنسى أن تصلي وتسلم على النبي محمد وعلى آل محمد
اللهم صل وسلم على النبي محمد وعلى آل محمد