ماهو مقام المراقبة ومتى وصل إليك السالك اصبح في معية الله وولايته
تعد المراقبة مقاما من مقامات الترقي في طريق السير والسلوك ، وقد صنفها القاشاني ضمن باب المعاملات معرفا إياها كالآتي :
"المراقبة: وصورتها في البدايات : محافظة الجوارح من المخالفات .
وفي الأبواب : مخالفة قوى النفس تحفظا من دواعيها .
وأصلها في المعاملات : مراقبة الحق للقلب على الدوام في السير إليه بين تعظيم مذهل، ومداناة حاملة وسرور باعث .
ودرجتها في الأخلاق : مراقبته في تجليه لعباده بأخلاقه حتى يتخلق بها .
وفي الأصول : دوام ملاحظته للمقصود في القصد إليه مع حفظ الأدب معه ."
تدرج القاشاني في تعريف مقام المراقبة الذي يترقى حسب منازل العبد، فتبدأ بالمحافظة على الجوارح من المعصية، وبعدها مخالفة النفس، وقد قال الإمام البوصيري فيها:
وخالف النفس والشيطان واعصيهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
إذ اعتبر العارفون بالله ان أصل كل مخالفة ومعصية من النفس والانسياق لأهوائها ورعوناتها. كما جعل الإمام القاشاني أصل المراقبة في القلب الذي يداوم على مراقبة الخالق متمثلا الأدب والتذلل بين يدي الله عز وجل، مراعيا حوافظ التعظيم والتقديس، ومتشبعا بالشوق والمحبة للخالق الأعظم الذي له المنة الكبرى، ومن ثمة فإن حفظ المراقبة في الجوارح ما هو إلا صورة في الواقع للأصل الذي هو حفظها بالقلب فتنعكس إذ ذاك عليها، ولأجل هذا قال بعضهم:" من راقب الله تعالى في خواطره، عصمه الله في جوارحه .
وقد عرفها الشيخ ابن عجيبة قائلا : "المراقبة : إدامة علم العبد بإطلاع الرب، أو القيام بحقوق الله سرا وجهرا خالصا من الأوهام، صادقا في الاحترام، وهي أصل كل خير، وبقدرها تكون المشاهدة، فمن عظمت مراقبته، عظمت بعد ذلك مشاهدته.
فمراقبة أهل الظاهر: حفظ الجوارح من الهفوات،
ومراقبة أهل الباطن: حفظ القلوب من الاسترسال مع الخواطر والغفلات،
ومراقبة أهل باطن الباطن: حفظ السر من المساكنة إلى غير الله "
والمراقبة حال باطني يعيشه المؤمن المحسن في سريرته وسره، فقد سأل أبو العباس البغدادي جعفر بن نصير عن المراقبة فقال : "مراعاة السر لملاحظة نظر الحق سبحانه مع كل خطرة ."
والسر والخطرة من دقائق الخَلْق الإنساني التي لا يطلع عليها إلا بارئُها، فوجب الاستدامة على مراعاة سلامتها، وفي ذلك يقول المرتعش أيضا: "المراقبة مراعاة السر بملاحظة الغيب مع كل لحظة ولفظة ".
وقد صنف العارفون بالله المراقبة ضمن أهم الطاعات وأجلها لما تورثه من الاستقامة والتقوى، وبذلك كانت أساسا في اصول التزكية في طريق السالكين .
فيقول أبو عثمان المغربي : "أفضل ما يلزم به الإنسان نفسه في هذه الطريقة : المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم" .
ويقول الجريري: "أمرنا هذا مبني على فصلين : وهو أن تلزم نفسك المراقبة لله تعالى، ويكون العلم على ظاهرك قائما".
و"سئل ابن عطاء : ما أفضل الطاعات؟ فقال : مراقبة الحق على دوام الأوقات .
وقال الواسطي : أفضل الطاعات حفظ الأوقات، وهو: أن لا يطالع العبد غير حده، ولا يراقب غير ربه، ولا يقارن غير وقته.
أما عن علاماتها فيقول ذو النون المصري : "علامة المراقبة : إيثار ما آثر الله تعالى، وتعظيم ما عظم الله تعالى، وتصغير ما صغر الله تعالى" .
فيكون حال العبد الذي تمثل مقام المراقبة في موافقة مع الله ظاهرا وباطنا، مستجيبا مطيعا، راضيا بالعبودية معترفا بالألوهية .
وعن ثمارها يقول الجنيد : " من تحقق في المراقبة خاف فوت حظه من ربه عز وجل لا غير."
إذ يدرك العبد أن كل غفلة عن الله عز وجل هي فوات الحظ مع الحق، وفي هذا الإدراك قمة الحضور مع الله عز وجل في كل سكنة و حركة، فيستحي العبد من مخالفة الطاعات، وإتيان المعاصي، ومن ثمة يغدو مدركا لحقائق التشريع،
وفي هذا قال النصراباذى : "الرجاء : يحرك إلى الطاعات، والخوف : يبعدك عن المعاصي والمراقبة تؤديك إلى طرق الحقائق .
وقال إبراهيم الخواص : المراعاة تورث المراقبة، والمراقبة تورث خلوص السر والعلانية لله تعالى" .
وقد حث العارفون بالله على التزام المراقبة في سلوكهم لما أدركوا لها من جليل الثمار، فيقول أبو حفص: إذا جلست للناس فكن واعظا لقلبك ولنفسك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك ، والله يراقب باطنك ".
والسبيل للوصول إلى مقام المراقبة هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، والتزام ذكر الله عز وجل، إذ به تنمحي الأغيار والأكدار وتنجلي الأسرار والهبات، ومقام المراقبة هبة يكرم بها الله عز وجل من نشد مقام القرب والجوار .
وقد قال أحمد بن عطاء رحمه الله : خيركم من راقب الحق بالحق في فناء ما دون الحق وتابع المصطفى صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأخلاقه وآدابه.
الله ولي التوفيق
أخي القاريء لاتنسى أن تصل وتسلم على النبي محمد وعلى آل محمد
جزاك الله خيرا
ردحذف